التضخم المعرفي- الذكاء الاصطناعي وتآكل قيمة المعرفة

المؤلف: علي محمد الحازمي08.27.2025
التضخم المعرفي- الذكاء الاصطناعي وتآكل قيمة المعرفة

عندما يتردد صدى مصطلح "التضخم"، تتوجه الأنظار بشكل فوري نحو البنوك المركزية، وأسعار الفائدة المتقلبة، وأسواق السلع العالمية. ومع ذلك، يظهر نوع مستجد من التضخم، غالبًا ما يبقى في الظل، نادرًا ما يتم التطرق إليه، ولا يظهر أثره في المؤشرات التقليدية للأسعار أو في سلوك المستهلكين. هذا النوع هو "التضخم المعرفي"، وهو نتاج ثورة الذكاء الاصطناعي، خاصة مع الانتشار الواسع لنموذج اللغة الكبيرة مثل ChatGPT في ساحة الإنتاج المعرفي العالمي.

لقد وصلنا إلى عصر يتم فيه إنتاج المعرفة بوفرة هائلة، وبتكلفة تقترب من الصفر. يتم إنشاء آلاف التحليلات المتعمقة، والمذكرات التفصيلية، والعروض التقديمية الجذابة، والخطط والاستراتيجيات المبتكرة في غضون ثوانٍ معدودة، ليس بواسطة البشر، بل من خلال نماذج ذكاء اصطناعي تم تدريبها على كميات هائلة من البيانات. لم تعد المعرفة سلعة نادرة، بل أصبحت متوفرة بشكل مفرط. ومع هذا التدفق الغزير، بدأت قيمتها الحقيقية في التضاؤل تدريجيًا.

تشير أبسط المفاهيم الاقتصادية إلى أنه كلما ازداد المعروض من سلعة ما دون زيادة مماثلة في الطلب عليها، انخفضت قيمتها السوقية. وينطبق الأمر نفسه على المعرفة. لم تعد المعلومة ميزة تنافسية، بل أصبحت القدرة على فرز المعلومات، وتمييز الحقائق من الزيف، ووضعها في سياقها الصحيح، واستخدامها بفعالية لتحقيق الأهداف المنشودة هي الميزة الحقيقية. تقليديًا، كانت الخبرة تتراكم على مر السنين من خلال العمل الجاد والتجارب المتراكمة، ولكن الآن، أصبحت قابلة للتوليد الفوري.

هذا التحول الجذري يهدد الهياكل الاقتصادية التقليدية الراسخة، مثل شركات الاستشارات، ومؤسسات التعليم العالي، والصناعات الإبداعية المتنوعة، وحتى أنظمة براءات الاختراع. في الماضي، كانت المعرفة هي العملة الأغلى والأكثر قيمة، ولكنها أصبحت الآن متاحة للجميع، وبالتالي لم تعد كافية وحدها لتوليد الأرباح وتحقيق النجاح. هذا التأثير لا يقتصر على القطاعات الاقتصادية فحسب، بل يمتد ليشمل الأفراد أيضًا. فالعديد من الوظائف التي تعتمد على المعرفة العامة، مثل الترجمة، والكتابة، والتحليل الأساسي، تواجه خطر التهميش أو انخفاض الأجور. وفي المقابل، تزداد قيمة المهارات العليا مثل التفكير النقدي العميق، والإبداع الحقيقي، والقدرة على حل المشكلات المعقدة.

ربما نصل إلى نقطة نحتاج فيها إلى إنشاء ما يشبه بنكًا مركزيًا للمعرفة؛ وهي هيئة تنظيمية تشرف على هذا التدفق الهائل من المعلومات، وتعيد تعريف معايير الجودة، وتمنح الاعتماد والقيمة للمعرفة البشرية المنتجة في ظل هذا الفيضان الاصطناعي. ليس الهدف هو الحجب أو المنع، بل إعادة توازن العلاقة بين الإنتاج والاستهلاك، وبين الكم والكيف. نحن لا نعيش فقط ثورة صناعية رابعة، بل لحظة تاريخية يتم فيها إعادة صياغة مفهوم القيمة ذاته. لم يخلق الذكاء الاصطناعي اقتصادًا جديدًا فحسب، بل أثار أيضًا أزمة هوية معرفية عميقة هزت أسس القيمة نفسها. والسؤال لم يعد "ماذا تعرف؟"، بل "ما القيمة الحقيقية لما تعرفه؟"، وهل يمكن الوثوق في مصدر هذه المعرفة؟

في الختام، قد لا يتم قياس التضخم المعرفي بالأرقام والإحصائيات، بل يتم قياسه بتآكل المعنى، وفقدان التفرد والتميز البشري وسط سيل لا ينتهي من الأقوال الذكية المتكررة والمملة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة